لقي مصطلح الغموض اهتماما كبيرا من النقاد والدراسين قديما وحديثا، وفي مختلف الثقافات . فوضعت فيه مصنّفات، وخصصت له ندوات أسهبت في الحديث عنه مؤكدة على قيمته .ويتضمن هذا المقال كلّ ما يحتاج إليه البحث حول "الغموض في الأدب".
-مقدّمة :
عرف مصطلح "الغموض" أو ما يعرف بالإنجليزية ( the a mbiguity) اضطرابا وقلقا كبيرا واعتبره البعض إشكالية بسبب تعددّ مستوياته. ولقي اهتماما منهم منذ وقت مبكّر. ومنشأ الاختلاف في تحديد مفهومه يعود لكونه يؤخذ من جزئية معينة، وكذا لصعوبة تحديد تعريف شامل له.
وتنوّعت التعريفات العربية والغربية لمصطلح " الغموض"، القديمة منها والحديثة، وسنحاول في هذا الموضوع التحدّث عن كلّ ما يتعلّق به، وقبل ذلك لا بد من وضع تعريف لمصطلح الغموض:
1)- تعريف الغموض :
أ- مفهوم الغموض لغة:
وجاء في الرائد أنّ لفظ الغموض يقصد به الكلام الخفيّ، أو المكان المنخفض، أو البيت البعيد عن الطريق العام[2]، وبذلك يكون معنى الغموض هو كلّ شيء مغمور ، وخفيّ أو كلّ أمر بعيدٍ يغيبُ عن النّظر أو الفهم، وقد يكون ميزة أو عيبا في الكلام حسب السياق.
ب- مفهوم الغموض اصطلاحا :
وفي المدوّنات العربية نلاحظ أنّ المصنفات القديمة قد احتفظت بتعريفات لمصطلح الغموض جاءت على لسان اللغويين، والنحاة، والنقاد، والمفسرين وغيرهم. واتفقت على خفاء المعنى على غرار ما نجده عند قدامة بن جعفر، وابن رشيق وغيرهما. واتفقت تعريفاتهم على أنّ الغموض يعني "الإبهام" و"الإغلاق".
وفي العصر الحديث تعدّدت تعريفات الدارسين العرب للمصطلح على غرار ما نجده لدى "عز الدين إسماعيل" الذي يعتبره : «صفة خيالية تنشأ قبل مرحلة التعبير المنطقية، أي قبل مرحلة الصياغة اللغوية»[4]. وقد ركّز القائل على جزئية عدم الوضوح في الفكرة عندما تكون في ذهن الكاتب أو القائل؛ وهي المرحلة التي تسبق الكتابة.
2)- أسباب الغموض:
حاول النقاد تتبع أسباب الغموض لاسيما أنّه أصبح ظاهرة في "الشعر الحديث"، ورأوا أنّه يمكن حصرها في ثلاثة عناصر أساسية، وهي:
أ - الأديب:
ب- النص:
والقصد هنا محتواه لاسيما لغته؛ حيث طال الغموض مختلف مستوياتها بداية من الكلمات كتلك المشتركة في المعنى أو الحوشي من اللفظ ، وقد ينتج الغموض عن طريقة تـأليف الكلام ونظمه، كما قد يتعلق الغموض باللفظ والمعنى معا، واقتصر الكثير من الأدباء ولاسيما الشعراء على ما هو مرتبط بالحياة اليومية، فوظفوا ألفاظا تساعدهم في التعبير عن تجاربهم الشعرية وتؤكّد وجودهم، وتجاوزوا الكلمات المستقاة من المعجم العربي القديم.
جـ - المتلقي:
3)- مستويات الغموض:
- الإبهام: هو صفة نحوية تتعلق بتراكيب الجمل التي قد تقود إلى التعقيد، أمّا الغموض فيتعلق بالخيال والأفكار أكثر.
- الترميز: وهو درجة متقدمة من الغموض، ويتنوع بين "الرمز الديني" و"الرمز الأسطوري"، و"الرمز التاريخي " إلى غير ذلك من الرموز التي تستخدم كأقنعة لتمرير رسائل خفية من الشعراء.
- الإغلاق: وهو مصطلح مستوحى من إغلاق الأشياء فكأنّ÷ يغلق على المعنى ولا يجعله يتسرب إلى ذهن المتلقي، وهو أعقد من الرمز لأنّ هذا الأخير قد يكون متفقا عليه، عكس الإغلاق الذي يكون القصد منه عادة عدم الإفصاح عن الأفكار.
4)- أنواع الغموض:
أ-الغموض الفنّي :
ولا شكّ في أنّ الشعر معني بالغموض أكثر من النثر- كما أشرنا سابقا- بسبب لغته الملوحة التي تعتمد على الإيحاء، والترميز بدل التصريح. ولا سيما الشعر المعاصر الذي يحتاج إلى كثير من التأمل، والتحليل للغوص في محتواه، واستخراج دُرَره، شرط أن لا يصل إلى حد التعتيم الذي يجعل المعنى مقفلا يصعب على القاريء فكّ رموزه حتى لو كان متخصصا لأنّه سيشعره بالملل، وسيدخله في باب الألغاز.
ب-الغموض غير الفني:
ويعرف هو الآخر بمسميّات عديدة من
بينها: الغموض السلبي، والمبهم، والمَقيت، والمتكلِّف، والمرفوض، وغيرها من الأسماء
التي تصف الآثار التي يتركها في الكلام؛ حيث سيؤثر سلبا من الناحية الفنية. ويعيب
الأسلوب ؛ لأنّه يضعه في خانة التكلف،
والتعقيد غير المحموديْن في العمل الأدبي لدى أغلب النقاد؛ لأنّه لن يحقّق لا
الفائدة، ولا المتعة؛ بل سيدخله في متاهة لا طائل منها بسبب ضبابية الصورة التي قد
يكون فهمها مستحيلا، وقد يكون علامة على فشل الشاعر في التعامل مع اللغة، وتطويعها لنقل أفكاره،
وخلجاته، والتأثير في المتلقي، أو قد يوحي بأنّ النص خال، ومفرغ من أيّ معنى أو قيمة
بسبب الإيغال في حشد المفردات الصعبة.
5) - أهميّة الغموض:
- يكثر الغموض في الشعر أكثر من النثر بسبب وجود قوالب متفق عليها يسكب فيها خطابه وينبغي أن تكون منتقاة ودقيقة في ألفاظها ومعانيها للمحافظة على الإيقاع ولا شك في أنّ اللغة الموحية تختزل الكثير من الكلام.
- يعدّ الغموض الفني سمة فارقة بين الخطاب العادي والخطاب الراقي، ويسمو بالخيال ليبلغ درجة راقية؛ لذلك كان ميزة في فنّ الشعر الذي يصعب نظمه في ظل قيود القافية.
- هو طاقة خلّاقة؛ لأنه يشرك المتلقي في الإبداع من خلال توظيف خياله الذي يساعده في القيام بقراءات لا متناهية للمدونة، وهي لا تقلّ أهميّة عن الكتابة، وهو ما يقوم بإعادة تشكيل لنصوصها.
خاتمة:
لا شكّ في أنّ دور الغموض في الإبداع كان كبيرا والدليل على ذلك: هو محافظته على الأهمية ذاتها في مختلف الثقافات منذ القدم إلى يومنا. وهي تزداد شيئا فشيئا بشكل ملفت بسبب الظروف المحيطة بالأديب، والمعطيات المتجددة التي غيّرت من المعايير النقدية، وأعطت أهميّة لصدق التجربة والتنفيس عن الأفكار والمشاعر-على حساب فكرة الوضوح لتي كانت سائدا في العصور السابقة -والتي قد تحتّم عليه أحيانا استخدام ألفاظ وتراكيب خاصة وذلك درءا للمشاكل أو استفزازا لمخيلة المتلقي.
المراجع
[1]- ينظر لسان العرب ،ابن منظور، لسان العرب أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري ،دار صادر ، لبنان، ج7، مادة (غ.م.ض)، ص:200.
[2]- ينظر الرائد ، جبران مسعود، دار العلم للملايين، لبنان،1،1992م، ط7،
ص:58
[3]- الغموض في الدلالة :أنماطه وعوامله ووساآل التخلص منه في العربية، محمد أحمد محمود حماد، تحت إشراف أ.د كمال محمد بشر، رسالة دكتوراه، تخصص فقه اللغة، ، جامعة القاهرة، جمهورية مصر العربي ، نشرت عام 1986، ص:34
[4] - الشعر العربي المعاصر " قضاياه وظواهره الفنية، عز الدين إسماعيل، دار العودة، بيروت، ص:189
[5]- أدب الغموض،ويكيبيديا.